استقر الشيخ مبارك الميلي فور عودته إلى الجزائر بمدينة قسنطينة عمل مُعلماً في مدرسة قرآنية عصرية تأسست في مسجد »سيدي بومعزة « الذي كان يقع في نفس شارع مطبعة وإدارة جريدة الشيخ ابن باديس »الشهاب«.
(6) فبقي في تلك المدرسة إلى بداية سنة 1927 ثم غادر قسنطينة إلى مدينة الأغواط في الجنوب الجزائري، والتي استقبله أهلها استقبالاً عظيماً.
(7) فقام فور وصوله إليها بتأسيس مدرسة تولى فيها الإشراف على تعليم أبناء الجزائريين بنفسه.
تعرّف الشيخ الميلي من خلال تلك المدرسة على بعض أبناء المدينة ورجالها الذين كانوا يؤيّدون منهجه الإصلاحي ويؤازرونه في أعماله، كما تعرّف أهل الأغواط بدورهم على الميلي، فأحبّوه ورأوا فيه رجل العلم المتمكن والمتنوّر والمتحرّر من قيود الشعوذة والخرافات السائدة بين أوساط أهل العلم في ذلك العصر.
ذاع سيط الشيخ الميلي بين سكان المدينة، وعرفت مدرسته نشاطاً متنامياً وقبولاً متزايداً لدى الشباب خاصة، كما صار نشاطه يمثل وجوداً بارزاً للإصلاح الذي كانت تعارضه الطرق الصوفية آنذاك، وباتت أفكاره وآراؤه محل حديث الخاص والعام في المجتمع. ولم يكن يقتصر نشاطه في تلك المدينة على الجانب العلمي فقط، بل تجاوزه إلى جوانب أخرى لم تكن مألوفة ولا معروفة عن أهل العلم حينئذ مثل قيامه بتأسيس أول نادٍ لكرة القدم في المدينة سنة 1927.
أثار تنامي نشاط الميلي تخوف السلطات الفرنسية من الانعكاسات التي قد تنتج عن تأثيره في فئة الشباب خاصة والمجتمع عامة، فأمرته بمغادرة الأغواط بعد سنوات من العمل والنشاط. ويبدو أنَّ الطريقة التيجانيّة لم تكن بريئة من السعي لإثارة تلك المخاوف في أوساط إدارة الاحتلال ومن ثَمَّ استصدار قرار الإبعاد النهائي.
( غادر الشيخ مبارك الأغواط متجها إلى بلدة بوسعادة قام بالأعمال والنشاطات نفسها، إلا أن حظه مع الإدارة الفرنسية في تلك البلدة لم يكن أفضل من الأولى، حيث أمرته بدورها بمغادرة بوسعادة أيضاً.
بعد سنوات من العمل والنشاط في قسنطينة والأغواط وبوسعادة، عاد الشيخ الميلي إلى ميلة ليستأنف ما بدأه من أعمال منذ عودته من تونس، فاستقر بها، وسعى بمعية بعض أعيانها إلى تأسيس مسجد جامع تُقام فيه الصلوات، فكان هو خطيبَه والواعظَ فيه، وقد أُقيم المسجد على جزء من بيت فسيح أهداه أحد أعيان المدينة المناصرين للإصلاح - محمد بن ناصف- إلى أهل البلدة. ثم أنشأ الإصلاحيون في ميلة بقيادة الشيخ الميلي، جمعيةً باسم »النادي الإسلامي« فانضمت جهودُها إلى ما كان يقوم به ذلك المسجد من أعمال في مجال الإصلاح. وتوسيعاً لدائرة الأعمال والنشاطات فقد كوّن المسجد والنادي المذكورين جمعيةً أخرى تحت اسم »جمعية حياة الشباب«.
(9) وقد أثّرت تلك النشاطات المكثفة والمتنوعة - من خلال تلك المراكز العلمية- في الناس أيَّما تأثير، مما أدّى ببعض التقارير الفرنسية آنذاك، بالإقرار بأن الشيخ مبارك الميلي كان يُقَدِّم تعليماً حيًّا وواسعا.
(10) وهذا ما جلب له كغيره من زملائه من علماء الإصلاح الآخرين، سخطَ إدارة الاحتلال من جهة، والعلماء الرسميين –الموظفين عند الإدارة الفرنسية- وشيوخ الطرق الصوفيّة من جهة أخرى.